رائعة السينما المصرية ‘المومياء’

نجح عالمياً ونسيه المصريون

بقلم: أحمد علي.

عرفت مصر ودول أوربا الطريق إلى السينما.. في نفس التوقيت، قبل أكثر من 100 عام، لكن القارة العجوز سرعان ما حولت الاختراع الحديث إلى صناعة.. تدر الأرباح.. وتنشر الثقافة ونمط الحياة الغربية، بينما تعاني السينما المصرية من ضعف القدرة على تحقيق نفس الأهداف، رغم أننا نمتلك الإمكانيات والقدرة.. والدليل فيلم 'المومياء'.

تجني الولايات المتحدة الأمريكية مليارات الدولارات من عائدات عرض أفلامها في الخارج، لإيمانها بأن السينما صناعة استراتيجية.

تحصد فرنسا 4 مليارات يورو في أقل من أسبوعين خلال مهرجان 'كان'، لأنها تدرك أن السينما وسيلة مهمة للترويج السياحي.

تنفق روسيا والصين ملايين الدولارات سنوياً، لدعم الأعمال الفنية المحلية، لأنها تعتبرها وسيلةً للدفاع عن ثقافة المجتمع في مواجهة الغزو الفكري.

كل هذا يؤكد الدورَ القويَ للسينما باعتبارها إحدى مكونات القوى الناعمة لكل دولة في الترويج لها خارجياً، بما يحقق انعكاساتٍ إيجابية ومباشرة على السياحة واقتصاد الدول ودخلها القومي.

نعرف أن الدولة المصرية تبذل جهوداً مضنية لمواجهة تراجع أعداد السائحين منذ 25 يناير 2011، وهي جهود نتج عنها زيادة في تلك الأعداد بدايةً من عام 2017، حيث زار مصر ما يقرب من 13 مليون سائح، إلا أن ذلك الرقم ما زال أقل من الرقم الذي حققته مصر عام 2010 ويبلغ 14.7 مليون سائح، كما أن الأعداد مرشحة للانخفاض هذا العام.. ليس في مصر وحدها، بل في العالم أسره، بسبب أزمة فيروس كورونا المستجد.

نحتاج جهود الدولة لتحقيق الاستقرار الأمني ومكافحة انتشار فيروس كورونا، لتنشيط السياحة، ونحتاج استغلال قوتنا الناعمة.. وخاصة السينما التي لها مكانة خاصة في قلوب متابعيها في الشرق الأوسط والعالم، فهي الأكثر قدرةً لتسليط الضوء على آثارنا الفرعونية والرومانية والإسلامية والقبطية، وشواطئنا وطبيعتنا الساحرة التي تأسر القلوب قبل العيون.

رغبتنا في تحسين مستقبل النشاط السياحي والثقافي.. تدفعنا لعرض مكاسب نموذج سابق ساهم في تحقيق التفوق المصري في مجال السينما، هذا النموذج كان بطله 'شادي عبد السلام'، فنان تشكيلي، ومخرج سينمائي، كان له مشروع فني ينحاز للحضارة المصرية، ومن أشهر أفلامه التي تتحدث عن عظمة آثارنا الفرعونية، فيلم 'المومياء' الذي أنتجته شركة القاهرة للإنتاج السينمائي عام 1969 وعُرض للجمهور عام 1975 وكان بطولة الفنان 'أحمد مرعي' والفنانة 'نادية لطفي'، ونال الفيلم الكثير من الجوائز الدولية، واحتفت به مهرجانات عالمية، وجرى تصنيفه ضمن أهم 100 فيلم في مشوار السينما العالمية، كما تصدَّر قائمة أهم 100 فيلم عربي في الاستطلاع الذي أجراه مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013 وشاركت فيه 500 شخصية تنتمي لعالم السينما.

تتمحور الفكرة الرئيسية للفيلم حول سرقة الآثار المصرية، وقصته مأخوذة من أحداث حقيقية تمثلت في اكتشاف مخبأ المومياوات بالدير البحري بالأقصر عام 1881 في عهد الخديوي توفيق، حيث اكتشف عالم الآثار الشهير 'ماسبيرو' بردية فرعونية معروضة في أوربا، وقام بفك رموزها، ووجد عليها عبارات 'يا من تذهب ستعود.. يا من تنام سوف تنهض.. يا من تمضي سوف تُبعث.. فالمجد لك.. للسماء وشموخها.. للأرض وعرضها.. للبحار وعمقها' واستطاع أن يتوصل إلى نتيجة مفادها فقدان مقابر الأسرة الفرعونية الحادية والعشرين، وقام بارسال وفدٍ من رجال الآثار إلى الأقصر للبحث والاستكشاف، حيث كانت مقابر الأسر الحادية والعشرين والسابعة عشر والثامنة عشر والتاسعة عشر والعشرين.. الموجودة بالدير البحري في قبضة قبيلة الحربات.. وبعيداً عن أعين الدولة لفترة طويلة.

وكان أعضاء القبيلة يتوارثون السرَّ جيلاً بعد جيل، وباعوا الذهب الموجود مع هذه المومياوات إلى سماسرة مثل التاجر أيوب ومساعده مراد، ومنه إلى الدول الأوربية، إل أن توفي كبير القبيلة 'سليم' واستلم الأمر ولداه اللذان رفضا استكمال تلك اللعبة الخبيثة، فقام أعمامهم بقتل الأخ الأكبر.. فلم يستسلم 'ونيس'، الأخ الأصغر، لجبروتهم وجشعهم، ولم تعمي عينيه إغراءات وأموال التجار، واختار أن تأخذ تلك الآثار مسارها الصحيح إلى المتحف المصري، فهي حق من حقوق الشعب، وجزء أصيل من تاريخه وهويته.. وليست سلعة للتجارة.

عرَّض 'ونيس' حياته للخطر، وذهب إلى وفد رجال الآثار، وأخبرهم بمكان الدير، ليجدوا به مومياوات لأربعين ملكاً من الخمس أسرات الفرعونية.. من السابعة عشر حتى الحادية والعشرين.. مثل رمسيس الأول ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث وتحتمس الثالث وأمنحتب الثالث.. وغيرهم من أشهر ملوك الفراعنة، ووجدوا على جدران الدير كتابات هيروغليفية تفيد بقيام كهنة آمون بنقل موميات الملوك سراً من مقابرهم، وجمعهم فى الدير البحري كمخبأ بعيد.. لحمايتهم من السرقة التي انتشرت في تلك الفترة، بعد انتهاء عصر الأسرات الفرعونية القوية .

وتدور أحداث الفيلم باللغة العربية الفصحى، وفيما يشبه المسرح التراجيدي الحزين في طريقة السرد، وظهر إبداع شادي عبد السلام كفنان تشكيلي في تأصيل آثار معابد طيبة الساحرة في أحداث الفيلم بطريقة جذابة، كما قام بتصميم ملابس الشخصيات بنفسه، فضلاً عن تأليف السيناريو والحوار، مع موسيقى تصويرية رائعة مرتبطة بالأحداث.

ولم يكن غريباً أن يلقى الفيلم ومخرجه إشادة من النقاد والأكاديميين وكبار العاملين في الحقل الفني، فلم يتعجب 'مختار يونس' أستاذ الإخراج بمعهد السينما من عبقرية الأداء بالنسبة لشادي عبد السلام.. بصفته فناناً تشكيلياً من الأساس، حيث يرى أنه لا يعلو عليه أحد في تكوين الكادر، وأنه اعتمد على الجماليات وفهم المصريين لتاريخهم، لذلك نجحت أفلامه، وخاصة 'المومياء'، نجاحاً ليس له مثيل بالخارج، ولكن للأسف لم يحقق نفس المستوى من النجاح داخل مصر.

واعتبر المصور السينمائي 'سعيد الشيمي' أن 'شادي' واحد من أهم السينمائيين في تاريخ مصر، الذي كان بإمكانه -عبر أفلامه- أن يقود اتجاهاً مصرياً خالصاً في السينما المصرية، والذي حرمه الأجل من إخراج فيلم 'إخناتون' الذي كان يحلم به.

ويرى الناقد الفني طارق الشناوي أن الفيلم أهم عنوان لمصر والعالم العربي كفيلم عربي، حتى إن المخرج الأمريكي 'مارتن سكورسيزي' قال: 'هناك تأصيل من شادي عبد السلام للُّغة السينمائية المصرية والعربية'.