بقلم: ندا عادل .
حسم المجتمع المصري أمره في التعامل مع الكفيف وفقاً لنظرة المبصرين لمن فقدوا نعمة البصر، ولا أحد يفكر في نظرة الكفيف لنفسه ولمجتمعه، فالكثيرون يتعاملون معه باعتباره شخصاً عاجزاً لا يستطيع تحمل مسؤليته بمفرده، ويعتمد بشكل أساسي على الآخرين لتلبية احتياجاته، على الرغم أن الكفيف لا يحتاج سوى زرع الثقة فيه من خلال معاملته كشخص طبيعي لا يختلف عن الآخرين في شئ، فهو يعتمد على باقي الحواس في تعايشه مع المجتمع، وفي تلبية كل ما يحتاجه.. إذا وظفها بشكل سليم، تاركاً نظرات الشفقة التي يلقاها من المجتمع.
وقد لا يتأثر الكفيف بما يتلقاه من المجتمع من كلمات شفقة مؤلمة، بقدر تأثره بما يتلقاه من أسرته من نظرة قاسية له، فبعض الأسر تنظر للكفيف على أنه يحتاج رعايةً و مجهوداتٍ كثيرة تفوق طاقتها، مما يؤثر بشكل سلبي على الحالة النفسية له. فالشخص الكفيف لا يحتاج إلا لبيئة مناسبة تهيئه جيداً للانخراط في المجتمع.
وبعض الأسر تنظر إلى تعليم المكفوفين على أنه عبء يقع على عاتقهم، على الرغم أن كل ما يحتاجه الكفيف هو تدريبه على طريقة برايل بشكل صحيح، ومن هنا يبدأ في تلقي تعليمه مثل الآخرين.. إذا توفرت له المادة العلمية مطبوعة بطريقة برايل، والأدوات التي يحتاجها في الكتابة. وهو ما جعل التعليم سهلاً بالنسبة له خصوصاً في ظل وجود مدارس خاصة بالمكفوفين.
ومن الناحية الأسرية فإنهم يواجهون مشكلةً أخرى تتعلق بالزواج واختيار شريك الحياة المناسب، فبعض الأسر تظن أن الكفيف غير قادر على تحمل مسئولية أسرة، وأنه يحتاج إلى من يتحمل مسئوليته، لذلك فإن قرار الزواج يأخذ تفكيراً كثيراً، وبعض الأسر تكون مترددة فيه. بالإضافة إلى أن أغلب الأهالي يرفضون زواج بناتهم من المكفوفين.
وقد جسدت السينما المصرية معاناة المكفوفين - وخاصةً الإناث- في الإقبال على الزواج من خلال فيلم 'نور عيني' حيث أدت الفنانة 'منة شلبي' دور الفتاة الكفيفة 'سارة' التي أحبها شاب يدعى 'نور'، وعند حديثهم عن الإنجاب وتربية الأطفال، قالت 'أنا مش هقدر أذاكر لهم ولا هقدر اعملهم أي حاجة انت اللي هتعمل كل حاجة وانت اللي هتوصفهم ليا'.
هذه الجملة المأساوية التي جسدتها السينما توضح نظرة المجتمع للفتاة الكفيفة.. باعتبارها غير قادرة على تحمل مسئولية الزواج وتربية الأطفال، وأن المسئولية ستقع على من حولها، على الرغم من أنها نظرة غير صحيحة، ففقدان الأم لحاسة البصر لا يعنى أن تصبح غير قادرة على التعامل مع أولادها، لأن الأم تشعر بهم من نبرة صوتهم دون أن تراهم. وتستطيع تلبية احتياجاتهم، وإن احتاجت مساعدة ستكون بسيطة.. وليس بقدر ما تصوره السينما بأن الشخص الكفيف غير قادر على فعل الأشياء بمفرده.. ودائماً يحتاج للعون والمساعدة.
فالسينما مازالت تحتاج إلى المزيد من التطوير وتغيير الصورة التي ترسمها عن المكفوفين.. بأنهم عاجزين، وغير مؤهلين لتحمل المسئولية، وتحويلها إلى صورة إيجابية.. من خلال أدوار بطولية لأشخاص تتحدى الإعاقة، وتثبت مكانتها في المجتمع، لتنال تقدير واحترام الآخرين، فهذا ما نفتقده في مجتمعنا من احترام حقوق هذه الفئة.
ومن الناحية القانونية، فعلى الرغم من صدور العديد من القوانين الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة في مصر - ومن بينهم المكفوفين- لتوفر لهم سبل الرعاية والخدمات سواءً في القطاع الصحي أو التعليمي أو لإيجاد فرص عمل من خلال دمجهم في المجتمع للمساهمة بقدراتهم في عملية البناء والتنمية، إلا أن الطريق مازال طويلاً أمامنا لمساواة الكفيف بالآخرين، فهناك العديد من الصعوبات التى تقف أمام تحقيق ذلك.
فإذا نظرنا إلى الشوارع مثلاً نجد الكثير منها غير مهيأ لسير المكفوفين فيها، فالعديد من الأرصفة عالية لا يستطيع الكفيف الصعود عليها بسهولة، وغير مؤهلة للكراسي المتحركة، بالإضافة إلى عدم وجود لافتات مكتوبة بطريقة برايل في المبانى والمواصلات، وافتقارنا للخدمة الصوتية في العديد من المواصلات العامة التى تعد مرشداً للكفيف، مما يجعله إما بحاجة لاصطحاب أحدٍ معه في كل مكان، ويعتبر هذا حلاً صعباً، أو أن يسأل الناس المحيطين به.
وعلى الرغم مما يعانى منه المكفوفون في مجتمعنا المصري، إلا أنهم أبدعوا وتفوقوا في المجتمعات الأخرى. فمنهم 'هيلين كيلر' التى تعلمت اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية، وتفرغت للكتابة والتأليف، ولها العديد من الكتب والقصص والمقالات. والعالم 'لويس برايل' الذي أخترع طريقة برايل لتعليم المكفوفين كي لا يكونوا ضحية للجهل وإهمال المجتمع لهم، بالإضافة إلى 'طه حسين' عميد الأدب العربي الذي أحدث طفرةً كبيرة في الأدب بمؤلفاته.. وغيرهم الكثيرون ممن برهنوا أن فقدان حاسة أو أكثر لا يعني أن الإنسان أصبح لاحول له ولا قوة، فكل ما يحتاجه دعم المجتمع له.
وبالتالي نجد أن كل ما يحتاجه الكفيف هو احترام المجتمع لحقوقه، وتوفير بيئة مُهيأة له دون الاعتماد على أحد، بالإضافة إلى دعمه بشكل دائم وعدم التعامل معه على أنه غير طبيعي، لأن إعاقته ليست من صنعه، فضلاً عن عدم تقديم المساعدة له في شكل الشفقة التي تشعره دائماً بالضيق.. وكأنه خُلق من أجل العطف عليه، فكل ما نحتاجه هو أن نتعلم ثقافة التعامل مع الآخرين.