كتبت: آمال كاظم وأحمد علي.
كان عمرها 18 سنة حين طرق بابها فارس أحلام يرغب في اختطافها إلى عش الزوجية، قدم الوعود والعهود بأن تظل حياتهما هادئة وجميلة.. تقدم لخطبتها أكثر من مرة، وأقسم لأهلها على ألا يتزوج غيرها، ووعدها بأن تكمل مشوارها التعليمي فالتحقت بكلية الآداب جامعة حلوان، ودرست في قسم علم النفس الشغوفة به.
كان القدر يمهد لهما الطريق، ليتزوجا ويعيشا حياةً لطالما حلمت بها، ورُزقا بـ'عبده' فكان هو ثمرة الزواج، ولكن دائماً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فبعد تقارير الأطباء لها بأنه من أصحاب متلازمة داون، تبدل حال الأب رأساً على عقب، ورفض احتضان الابن، وتحت ضغط والدته قرر الانفصال عن زوجته، وتركها هي وابنها بحجة أن من حقه إنجاب أطفال أصحاء.
من هنا تبدأ رحلة كفاح 'رضوى'، طالبة الفرقة الثانية بكلية الآداب، قررت أن تكمل المشوار وحدها.. دون رفيق أو صديق أو قريب، وقالت لنا 'أهلي ضغطوا عليا عشان أعطي الولد لأبوه.. بس أنا مقدرتش لأني عارفة إنهم هيرموه'.
وأضافت 'رضوى' صاحبة الثلاثين عاماً، خضتُ معاركي ضد والدي -سائق تاكسي- الذي رفض حضانة ابنته لحفيده في بداية الأمر، فكان ردها 'أنا هقعد بيه قدام جامع ولا إني أعطيه لأبوه'، لينتهي الأمر برضوخ والدها أمام رغبة ابنته في حضانة طفلها.
وتكمل قائلة: 'كنت بحضر المحاضرات وألخصها وأبيعها للمكاتب عشان أعرف أصرف عليه'، فكان هذا هو مصدر دخلها الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، ويكبر صغيرها وتزيد مطالبه، ولكن اشتملتها عناية الله حينما أعلنت إدارة رعاية شباب الكلية عن يوم رياضي، لتصطحب فلذة كبدها 'عبده' معها، وحينها علمت به إحدى أساتذة الكلية، الدكتورة 'جيلان رياض' رئيس مجلس إدارة إحدى مراكز التدريب والتدخل النفسي، لتكون ملاك الرحمة الذي تبنى 'عبده'، وفاض كرمها حتى احتوى رضوى الأم، فعرضت عليها أن تعمل كمدربة في المركز مقابل مبلغ 3 آلاف جنيه، ومن حسن حظها كان للدكتورة معارف من خارج مصر ينقلون لها أحدث برامج التأهيل النفسي لذوي القدرات الخاصة، وكانت تجود بالبرامج لتلميذتها رضوى، فكادت الحياة أن تستقيم.. لولا وفاة الدكتورة جيلان التي أنهت عملها في المركز.
'أبوه ميعرفش شكله أساساً'.. هكذا كانت إجابتها حين سألناها عن مدى تعاون الأب في تربية نجله، مضيفةً أن 'ربنا مبيتعاندش'، هكذا وصفت حالها بعد أن طلقها وتزوج بأخرى لينجب مريض توحد! في مشهد يجعلنا نتأمل بالفعل كيف أنه لا يمكن الاعتراض على قضاء الله.
حياة 'رضوى' لم تتوقف بعد انتهاء عملها في المركز، قالت: 'اشتغلت مع دكتورة أستغلتني'؛ حيث استغلت حاجتها في تدريب ابنها، وجعلتها تعمل بدون مقابل، كما استخدمتها للتوقيع على تقارير خاصة بمرضى التوحد، والذي يُفترض أن يكون من أخصائي نفسي، في ظل خلو المركز من الأخصائيين، لكنها لم تستمر في هذا العمل طويلاً، حيث التحقت بالعمل كمرافق 'شادو' لذوي القدرات الخاصة في عدة مدارس، لتنفق على طفلها.. لكنها تجارب انتهت سريعاً.
ومن رحم المعاناة يولد النجاح؛ فكرت رضوى في العمل الأكاديمي، فأعدَّت رسالة ماجستير عن معاناة الأمهات مع أطفال داون، وهو ما مكَّنها من العمل بعقد كمدرس مساعد في كلية الآداب جامعة الإسكندرية، بعد حصولها على درجة الماجستير بتقدير جيد جداً، لكن سرعان ما انتهى العقد لتعود للعمل كمرافق مرةً أخرى.
أما عن الدمج؛ فتقول رضوى إن دمج ذوي القدرات الخاصة في مصر قرار يُطبق بطريقة خاطئة، لأن الطفل يحتاج إلى مرافق لكي يحقق هدفه، وهو ما يشكل عبئاً مادياً على كاهل الأسر، كما أنه لا يوجد وعي كافٍ لأعضاء هيئة التدريب بمفهوم المرافق، مُعربةً عن أملها في أن تُنمي مهارات وحيدها، فهو يهوى كرة القدم والسباحة، وبارع في التمثيل، لكن عملها بالكاد يكفي احتياجاتهم الأساسية، وبالرغم من توفر فرص السفر لديها للعمل في دول الخليج إلا أن هذا يستوجب منها ترك فلذة كبدها، ومن ثم فهي تحتاج إلى توفير فرصة عمل لها بمرافقة ولدها.
حسم المجتمع المصري أمره في التعامل مع الكفيف وفقاً لنظرة المبصرين لمن فقدوا نعمة البصر، ولا أحد يفكر في نظرة الكفيف لنفسه ولمجتمعه، فالكثيرون يتعاملون معه باعتباره شخصاً عاجزاً لا يستطيع تحمل مسؤليته بمفرده، ويعتمد بشكل أساسي على الآخرين لتلبية احتياجاته، على الرغم أن الكفيف لا يحتاج سوى زرع الثقة فيه من خلال معاملته كشخص طبيعي لا يختلف عن الآخرين في شئ، فهو يعتمد على باقي الحواس في تعايشه مع المجتمع، وفي تلبية كل ما يحتاجه.. إذا وظفها بشكل سليم، تاركاً نظرات الشفقة التي يلقاها من المجتمع.
في مصر.. ملايين فقدوا نعمة البصر، لكنهم لم يفقدوا الرغبة في الحياة.. والاستمتاع بأوقاتهم، يتمسكون بالأمل في الحصول على الفرحة.. عبر قراءة كتابٍ ممتع أو ممارسةِ لعبة رياضية..
فرض فيروس كورونا على الجميع التعامل وفق إجراءات احترازية غيرت الكثير من تفاصيل الحياة المعتادة، وبمرور الوقت.. تطفو على السطح العديد من الأزمات التي خلَّفتها تلك الجائحة فى كافة القطاعات، ويبقى الأمل فى عبور تلك الأزمات مرهوناً بالقدرة على التقييم الحقيقي للحلول المفروضة بفعل الوباء.. وهذا ما يدفعنا لطرح تجربة ‘التعليم عن بعد’ للمناقشة، مستعينين بطرفي المنظومة؛ الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، لتقديم كشف حساب التجربة.