كتب: محمود أمين وآمال كاظم.
في مصر جرى إعلان عام 2018 عاماً لذوي القدرات الخاصة، وكان العام التالي 2019 هو عام التعليم، لكنَّ كِلا العامين أو المناسبتين لم يُسفرا عن حدث استثنائي ينعش آمال هذه الفئة الاستثنائية، وخاصةً المكفوفين؛ حدثٌ من نوعية السماح بالتحاق كفيف بكلية الطب.. مثلما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية، أو التحاق كفيف بدراسة الحاسبات.. مثلما حدث في ألمانيا، أو التحاق كفيف بدراسة علوم الرياضيات والفيزياء والميكانيكا.. مثلما حدث في سويسرا.
على بُعد سطور، ستجدون تفاصيل النماذج الثلاثة التي غيرت نظرة مجتمعاتها.. والعالم أجمع لمن فقدوا نعمة البصر، وبعدها نعرض عليكم النماذج المصرية المقهورة بظلام العرف الذي يتحكم في محراب العلم.
نثق في اهتمام الدولة المصرية بدعم ذوي القدرات الخاصة، ونقدِّر سعيها عبر محاولات عديدة لدمجهم في المجتمع.. والاستفادة من طاقاتهم، لكن يجب الانتباه إلى أن بعضاً ممن فقدوا البصر يمتلكون بصيرةً تتجاوز الخطوط التي يرسمها لهم المجتمع، ومنهم من يمتلك القدرة والموهبة لمنافسة نظرائهم المبصرين، ومثل هؤلاء يصعب أن نحرمهم من تحقيق أحلامهم.. خاصةً إذا كان هذا الحلم يتعلق بالدراسة في الكلية التي يحبونها.
لنبدأ من الجانب المضىء، من الدول الأوروبية التي أنعشت آمال المكفوفين، فكانت النتيجة الفوز بقامات علمية من المكفوفين.. قدمت إسهامات بارعة..
الطبيب الأمريكي الكفيف ديفيد هارتمان، واحد من هؤلاء، حكايته مزيج من المعاناة والجهد المتواصل، بروح لا تعرف اليأس، كانت أمنيته أن يدرس الطب، وكان كل الذين يعرفونه يعتقدون أنه حلم يستحيل تحقيقه، حتى أسرته، وفي ربيع 1972 أنهى 'ديفيد' الثانوية بمعدل كاد يبلغ حد الكمال 3.8 من أربع نقاط، وتقدم بطلب الانتساب إلى عشر كليات طبية، وفي مطلع إبريل تسلم رفضاً من ثمــانِ كليات، ثم وصل الرفض التاسع، حتى حالفه الحظ، وبعد وقت قصير تلقى رسالة موافقة من جامعة 'تمبل' الأمريكية، بل إنه تمكن عام 1976 من الحصول على شهادة البكالوريوس في الطب.
بعد مرور بضعة أسابيع على تخرجه، احتفلت جمعية التسجيل للمكفوفين بمناسبتين مهمتين، الأولى مرور 25 سنة على تأسيس الجمعية؛ والثانية وقوع حدث عظيم في تاريخها، والمتمثل في اقتحام أشد أعضائها طموحاً ميدان الطب، وأشاد رئيس الجمعية بديفيد وهو يقدم إليه جائزة مؤسسة الجمعية لأنه أظهر انتصار الروح البشرية.
النموذج الثاني يخص عالم الفلك الألماني الكفيف جيرهارد يافوريك، ويصنف كعالم حاسب آلي بمعهد 'كارلسروه' للتكنولوجيا بألمانيا، وهو صاحب العبارة الشهيرة 'لا حاجة للرؤية لاستكشاف الكون'، حيث تخصص في 'الفلك الشامل' الذي يعني علم الفلك سواء للأشخاص الطبيعيين أو لذوي القدرات الخاصة، وهو محاضر في هذا التخصص، وصاحب كتاب 'أعمى أمام النجوم: طريقي كفلكي'، كما أنه مولع بإجراء أبحاث حول الفضاء الخارجي، ووفقاً للجمعية الفلكية الألمانية فإنه يعد العضو الوحيد المكفوف فيها، وقد طور مواداً مبتكرة مثل نماذج بطريقة الطابعة ثلاثية الأبعاد، وخرائط للنجوم يمكن التعرف على محتوياتها عن طريق اللمس، والتي تسهل على فاقدي البصر 'رؤية النجوم'، وفي أبريل الماضي صدقت توقعاته قبل الكشف عن الصورة الأولى المثيرة والمبهرة لثقب أسود.
عالم الفيزياء السويسري الكفيف ليونارد أويلهو ثالث تلك النماذج المبهرة، حيث يعد أحد عمالقة الرياضيات والفيزياء في القرن الثامن عشر، فهو صاحب إسهامات عظيمة في الرياضيات البحتة، وقد نشأت العديد من مفاهيم الرياضيات الحديثة على أعماله، كما شملت أبحاثه أيضاً الميكانيكا، والديناميكا، والسوائل، وعلمي البصريات والفلك.
وقضى أويلهو أخر 17 عاماً من عمره فاقداً لبصره، ولكن إسهاماته العملية في تلك الفترة لا تصدق.. ومن أبرزها تطويره نظرية حركة القمر، وهي المسألة الوحيدة التي صدَّعت رأس نيوتن، ولكن أويلهو كان أول من درسها دراسة كاملة، وقام بجمع عمليات التحليل المعقدة المتعلقة بها في ذهنه.
هذه النماذج المبهرة نعرضها لكم.. على أمل أن نصادف مثلها في مصر في القريب العاجل، وحتى يتحقق هذا الحلم.. علينا أن ننتبه لتلك النماذج من المكفوفين الذين ينتابهم حالياً الإحباط لعدم قدرتهم على تحقيق أحلامهم العلمية.
'وردة' في قسم الفلسفة
وردة محمد علي، طالبة في الفرقة الثالثة بقسم الفلسفة، كلية الآداب جامعة بني سويف، كانت ترغب في دخول الشعبة العلمية خلال دراستها في الثانوية العامة، لكن لأسباب تتعلق بكونها كفيفية.. أُجبرت على دخول الشعبة الأدبية.
صورة الطالبة وردة
تقول 'وردة': أنا راضية بالواقع الذي لا يقتصر على حرمان المكفوفين من دخول الكليات العملية فقط، بل يمتد الأمر للعديد من الأقسام فى الكليات النظرية، حيث كنت أتمنى دخول قسم علم النفس بكلية الآداب، واكتشفت أنه ممنوع على المكفوفين، مشيرةً إلى أنها دخلت قسم الفلسفة نزولاً على رأي الاخرين.
وأوضحت أن الأمر يزداد سوءًا، حين تعرف أنه ليست كل الكليات النظرية متاحة للمكفوفين، فالمتاح منها فقط (الإعلام، والألسن، والاقتصاد والعلوم السياسية، والحقوق، والآداب، والتربية، ودار العلوم، والتربية الرياضية) بينما يُحرمون من دخول كليتي (التجارة، والخدمة الاجتماعية).
حلم الحاسبات والمعلومات
حمادة ياسين، قال لنا إنه كان يحلم بالإلتحاق بكلية الحاسبات والمعلومات، وانتهى به المطاف في كلية الآداب.
وأوضح أنه حين فشل في الالتحاق بكلية الحاسبات والمعلومات، حاول الالتحاق بإحدى المعاهد الخاصة، ولكن تطلب ذلك دفع مبلغ قدره 60 ألف جنيه، والنجاح في اختبار القدرات؛ الذي كان عبارة عن كتابة فقرة مكونة من 400 كلمة، فضلاً عن الدراية بالبرمجة، لذا لم يتمكن من الالتحاق بالمعهد، فاضطر إلى الالتحاق بكلية الآداب قسم علم الاجتماع.
وأضاف أنه التحق بالعمل في محل صيانة الأجهزة الإلكترونية منذ 6 سنوات، وانتظم في الدراسة حتى تخرج، واستعانت به جامعة بني سويف لتشغيل أجهزة الكمبيوتر الخاصة بقاعة المكفوفين في ملحق كلية الآداب.
حكاية ساندي مع كلية الطب
ساندي عادل، حالة أخرى فشلت في تحقيق حلمها الدراسي، قالت لنا إنها اختارت كلية علوم ذوي الاحتياجات الخاصة، لأنها مهتمة بذوي القدرات، ورغبت في معرفة الكثير عن الموضوع لتتعلم منه، وكانت شغوفة جداً بهذا التخصص، ومن ثم التحقت بتلك الكلية بعد حصولها على نسبة 84.2% في الثانوية العامة، رغم أنها كانت تريد أن تصبح طبيبة أطفال، ولكن الشعبة العلمية كانت غير متاحة لها في الثانوية العامة.
صورة ساندي وميار طلاب بكلية علوم
وأوضحت 'ساندي' أن الكليات المتاحة لطلاب الشعبة الأدبية تتمثل في (الآداب، والإعلام، والألسن، وعلوم ذوي الاحتياجات الخاصة)، بينما كلية التجارة غير متاحة لأنها تعتمد على الرياضيات.
وقالت: يوجد في مصر أعلام بارزين من المكفوفين، مثل الأديب طه حسين، وبعض أساتذة الجامعات، لكن أغلبهم من خريجي الكليات النظرية، ومن النادر أن تجد عالم فيزياء مثلاً كفيف، ويستحيل وجود هذا الشخص في مصر.
على أعتاب علم النفس
محمد نادي، طالب في كلية الآداب قسم علم اجتماع جامعة بني سويف، قال لنا إنه كان يرغب في الالتحاق بقسم علم النفس، ولكنه ممنوع للمكفوفين، بحجة كثرة الجانب العملي فيه، مما اضطره إلى الالتحاق بقسم علم الاجتماع، الذي يرى أن الجانب العملي فيه أكثر من قسم علم النفس.
كليات عملية ترحب بالمكفوفين
صورة محمد نادي
يرى الدكتور حمادة محمود وكيل كلية العلوم جامعة بني سويف، أن هناك بعض الكليات العملية يصعب أن يلتحق بها ذوو القدرات الخاصة؛ لأن الكليات العملية بطبيعتها قائمة على الملاحظة والحواس في تجميع البيانات، وكلية العلوم من أصعب الكليات، ولكن هناك بعض التخصصات تلائم المكفوفين.. كقسم الرياضة وعلوم الحاسب، وذلك عند الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة البديلة والذكاء الاصطناعي.
صورة د. حمادة محمود
وأشار إلى خطورة بعض الأقسام على الطلاب المكفوفين وهو ما يستدعي حرمانهم من الالتحاق بها، مثل قسمي الكيمياء والبيولوجي، القائمين على التشريح واستخدام الميكروسكوب وفحص الأنسجة والتمييز بينها باستخدام الحواس، مشيراً إلى أن الكليات العملية لا تستطيع أن ترفض المكفوفين بشكل عام، ولا تستطيع أن تقبلهم في نفس الوقت، لأنه ليس من مصلحتهم الالتحاق بالكليات العملية التي تشكل خطورةً عليهم عند الدراسة فيها، فلا يجب القول إن كلية العلوم لا تقبل ذوي القدرات الخاصة، ولكن هناك أقسام وحالات معينة.
وأكد أنه في حال وجود طريقة تعويضية لفقدان أحد الحواس، وذلك عبر توافر تعامل الحاسة بطريقة تكنولوجية، فلا يوجد ما يمنع تعامل المكفوف أو أي أشخاص لديهم مشكلات في حواس أخرى من الالتحاق ببعض الكليات العملية أو أقسام معينة فيها.
أطباء ولكن..
أوضح الدكتور محمد مبروك، أستاذ المخ والأعصاب بكلية الطب البشري جامعة بني سويف، أن كلية الطب من أكثر الكليات التي يستحيل على المكفوفين الالتحاق بها عند إتاحة الفرصة لهم، فالتخصصات مثل الجراحة أو الباطنة تحتاج إلى كشف وفحوصات، فالموضوع في غاية الصعوبة بالنسبة لهم، مشيراً إلى أنه يمكن أن يتاح لهم فقط التخصص في الطب النفسي أو طب التخاطب.
مهندس على طريقة برايل
أكد الدكتور نجيب جرجس أستاذ الفيزياء الهندسية بكلية الهندسة جامعة بني سويف، أن التحاق الطلاب المكفوفين بالكليات العلمية أمر صعب، ولكن لا يوجد مانع أن يلتحقوا بكلية الهندسة، بشرط إتاحة مواد مثل الرسم الهندسي بطريقة برايل، على أن يتخيل الطالب الرسم، مشيراً إلى أنه يتمنى التدريس لأحد هؤلاء الطلاب، لأنه يرى فيهم ذكاءً وتخيلاً عالياً.
بوابة عبور الحاسبات والمعلومات
أشار الدكتور حاتم نعمان، مدرس بكلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي، جامعة بني سويف، أنه على الرغم من أن الدراسة عملية بالكلية، ولكن استخدام الذكاء الصناعي من الممكن أن يتيح للمكفوفين بعض الخدمات والإمكانيات، لتمكينهم من الدراسة وتحصيل المواد في الكلية.
وأضاف أن هناك مشروع أطلقته شركة مايكروسوفت في فبراير من العام الماضي، سابقت فيه الزمن لإنهائه، ويحمل اسم 'تورينو'، والذي يهدف إلى تعليم الأطفال المكفوفين وضعاف البصر، من أجل الاستفادة منهم في عالم البرمجيات، وسيتيح المشروع لهم تعلم لغة برمجة جديدة تسمى ' Code Jumber ' وذلك بين سنيّ السابعة والثانية عشرة، حيث تم تسليم رموزها إلى دار الطباعة الأميركية للمكفوفين، وهي مؤسسة غير ربحية تهدف إلى مساعدة الأشخاص ضعيفي البصر.
وأكد الدكتور أبو العلا حسنين عطية، مدرس بكلية الحاسبات والمعلومات جامعة القاهرة، أن إتاحة كليات الحاسبات والمعلومات الفرصة لالتحاق المكفوفين بها، يحتاج إلى مجهود كبير لتوفير المادة العلمية الإلكترونية، وأن يكون الامتحان إلكترونياً، مشيراً إلى أن هناك طالبين، أحدهما خريج كلية الحاسبات والمعلومات جامعة القاهرة، والآخر خريج نفس الكلية جامعة المنوفية فقدا بصرهما أثناء فترة الدراسة، وأكملا الدراسة في الكلية بعد ذلك، وحالياً يُحضران الماجستير، ولكن لم تتوفر لهما المواد إلكترونياً، كما أن الامتحانات ورقية في وجود مرافق والسبب في ذلك يرجع إلى أن الكليات ليس لديها فكرة إتاحة المحتوى الرقمي.
وأوضح أن الطلاب ذوي القدرات الخاصة بشكل عام، والمكفوفين بشكل خاص، لا يستطيعون الالتحاق بالكليات العملية، ولكن بعض الأقسام من الممكن الالتحاق بها إذا تخطوا اختبارات القدرات، وإذا أتاحت لهم الكليات الدراسة بها عبر الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة.
ويرى عطية أن الجامعة المصرية للتعلم الإلكتروني الأهلية بالجيزة، تعد من الجامعات الإلكترونية التي تجسد أفضل النماذج التي تخدم الطلاب المكفوفين، وبها كلية الحاسبات ونظم المعلومات، ولكنها لم تتعامل مع المكفوفين بعد، مطالباً معظم الكليات العملية بتطبيق التعليم الإلكتروني في أقسامها، حتى يتسنى لأصحاب معظم الإعاقات الالتحاق بها.
مخاطر الكليات العملية
يرى الدكتور أحمد أبو شارب، أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة بني سويف، أن الالتحاق بالكليات العملية، وخاصة العلوم.. من قبل المكفوفين، فيه مخاطرة كبيرة، فقسم مثل الكيمياء العضوية وغير العضوية تستلزم الدقة في التجارب العملية، كما أن البعض منها يعتمد على تمييز الألوان، كما أن قسمي الجيولوجيا والكيمياء يعتمدان على معامل واستخدام ميكروسكوبات، فضلاً عن التعامل مع أحماض مركزة.. بعضها شديد الخطورة، كما أن قسم الحيوان يضم مقررات تشريح للحيوانات، ومن ثم لا يمكن القول بأن الكفيف يستطيع دخول كلية العلوم .
صورة الدكتور أحمد ابو شارب
وأكد أبو شارب أنه يستحيل على المكفوف الالتحاق بكلية مثل العلوم، إلا إذا تم تعديل المقررات النظرية والعملية، بما يتماشى مع ظروفه، وهذا في حد ذاته يسبب بتر للعلوم التي سيدرسها.