بقلم: فاطمة فتحي.
الدكتور مصطفى محمود، اسم يمتلك صاحبه بريقاً خاصاً، فهو الفيلسوف الذي دوَّن رحلته مع الشك والإيمان، وهو الطبيب الذى أسس واحدة من الصروح الطبية الخيرية الشهيرة، وهو المدافع عن 'العلم والإيمان' عبر برنامجه الشهير، لكن الجانب الذى لم ينتبه إليه الكثيرون فى حياته.. وبعد رحيله، هو إسهاماته الأدبية، رغم أهميتها، ربما لأنها لم تصادف الجدل الذى كان يصاحب إنتاجه فى المجالات الأخرى.
ومن بين إسهاماته الأدبية تلك، قصةٌ صدرت في ثمانينيات القرن الماضي، تحمل اسم 'المستحيل'، نشرتها دار المعارف، وجسَّدت حالةً أو قُل 'معاناةً' عاشها ويعيشها كثيرٌ من الشباب تحت سطوة الكبار وأصحاب العقول العقيمة، من يرون حياة أبنائهم ليست سوى صورة مُستنسخة من حياةٍ عاشوها هم، أو هكذا يجب أن تكون..عقولٌ رفضَت وترفض التجديد حتى لتمَّحي أمامَها شخصيةُ الأبناء، وتنكسرَ على أعتابها طموحاتُ جيلٍ جديد ينشُدُ الاستقلال، ويبحث عن الذات وسط زحامِ الحياة وعبثيَّتها!
تروي القصةُ حكاية 'حلمي'.. شاب في عامه الخامس والعشرين، درس الهندسة وتزوَّج وأنجب طفلًا..عاش كلَّ سنواته تحت سلطة أبيه وسطوتِه، حتى إذا ما مات أبوه، فتح عينه على دنياه، فوجد كل ما كان فيها هو -في الحقيقة- قرارُ أبيه واختيارُه، فلا 'أمينة' (زوجته) كانت قراره، ولا بذَّتَه التي ارتداها كانت من اختياره، ولا حتى تلك اللوحة التي عُلقت على جدران إحدى الغرف في بيته، كان هو من اشتراها أو آمن بأحقيَّتها في أن تُعلَّق حيثُ هِي، لقد كان أبوه 'كلمة السر' في هذا كلَّه.. سطوةٌ جعلته يعتاد ألا يكون صاحب القرار، وأن يلعب دور الخادم المنفذ لأوامر سيِّدِه القاطعة، يقول البطل: 'لقد ظل سلطانُ أبي يحلِّق فوق رأسي، حتى بعد أن تجاوزتُ سن التلمذة وتخرجت من المدارس لأعيش بإيرادي الخاص، كنت أستشيره من تلقاء نفسي كلما وقعتُ في مشكلة، كان الخوف ما زال في دمي؛ الخوف من الدنيا، ومن المرأة، ومن أن أحسم أمراً بإرادتي وبدون مشورته'!
تبدأ القصة برسم مشهد لـ 'حلمي' وهو شارد الذهن، يُمرر شريط حياته أمام عينيه، يتذكر كل حقٍّ سلبه إياه أبوه، أو فقده تحت وطأة العادات والتقاليد وشرف العائلة، وغيرِه مما يقال فلا يتبعه سوى تجريدُ المرءِ من إرادته، ووسط حالةِ التمرد التي يعيشها، يتعرَّف 'حلمي' على 'فاطمة'؛ جارته المحامية الشابة ..امرأة جميلة، جريئة، منطلقة، صريحة، لا تكترث لكلام الناس ولا لعاداتهم، تبغض العقليات الذكورية المتحكمة، طلَّقَت زوجَها بحثاً عن حريتها، يجد فيها 'حلمي' ما افتقده في ذاته.. فيحبها؛ فهو لم يكن يوماً حراً، ولم يمارس يوماً جرأته وصراحته كما فعلت وتفعل، تبدأ بينهما علاقة لا تعرف عنها 'أمينة' شيئًا، لكنَّ أياماً قليلة تمضي ويدرك 'حلمي' أن 'فاطمة' ليست هي ما يبحث عنه، إنها امرأة تسعى للسعادة اللحظية، وسرعان ما تملّ، لقد كانت قاسيةً بالقدر الذي لا يجعلها صالحةً للحب!
يعود 'حلمي' مرةً أخرى إلى زوجته وحياته الأولى، لكنه ما عاد كما كان، وإنما عاد، على كرهه لحياة لم يختَرْها، خائناً لزوجته، ويقتله هذا الإحساسُ بالخيانة لامرأة أخلَصَت له وابنٍ صغير، لا ذنب لهما في كل ذلك.
لا يمضي وقت طويل حتى يلتقي 'حلمي' بامرأة أخرى: نادية ،أو'ناني' ،كما ينادونها، جارتُه أيضاً، لكنها تختلف كثيراً عن فاطمة؛ فهي لا تحملُ ذلك القلبَ القاسي، وإنما هي إنسانة رقيقة عاشت ألَمَها الخاص، وعانت بقدْرِ ما عانى هو؛ تزوجت في سنٍ صغير من زوج أختها التي قتلها السرطان، وفُرض عليها أن تكون بديلةً لها؛ تتزوج زوجَها وتربي ابنتَها وتعيش بمنزلها، ليشعر 'حلمي' بوجود رابطٍ يجمعهما، شيء يُحتم عليهما أن يكونا معاً، لكن 'ناني' ترفض، وتحرِّم عليه وعلى نفسها أن يضحيا بزوجته وابنه، وزوجها وابنها، وتطلب منه أن يستسلم كلٌّ منهما لواقِعهِ المفروض ولحياةٍ خدعتهما وأَلبسَت كلاً منهما ثياباً غير ثيابه، وأن يحتفظ بحبه لها في قلبه، لكنه يتشبث بها ويُصرّ على خلاصِه من زوجته وخلاصِها من زوجها الذي تكرهه، ثم الزواج.. ويستمران في هذا الصراع إلى أن ينتهيان إلى فلسفة في الحب خاصة، جعلتهما يكتفيان بالحب في ذاته، الحب مُجرداً بلقائه الروحي دون الجسدي، فلسفة ترجمتها 'ناني' بقولها: 'حبُّك ردَّ لي قدرتي على أن أحب، وأعطى ومنحني القوة على أن أغتفر وأتحمل، إن الكراهية شيء فظيع يوقف الدم في القلب .. وقد عشتُ طول عمري أحارب الكراهية بدون سلاح، أحاربها وأنا أكره أن أحاربها وأكره نفسي.. لكنني الآن أحارب الدنيا بك' فيستسلم 'حلمي' لإرادتها بعد أن ينظر في عيني ابنه وزوجته الحنون، ويدرك أنْ لا خلاص من هذا كلِّه.. يدرك أنه 'المستحيل'..
لقد عاش بطلُ القصة بين مستحيلَين، لخصتهما جملةٌ قالها المؤلف على لسانِه: 'أنا أضعف من أن أُغيِّر حياتي، وأقوى من أن أقبَلها'؛ فلم يكن من الممكن أن يتخلى عن زوجته وابنه البريئين وأن يجعلهما يدفعان الثمن، ولم يكن من الممكن أن يستمر في لعب دورٍ غير دوره الحقيقي، أو أن يعيش حياةً ليست له.. فكان كل خيار أمامه، مستحيلاً!
إن 'المستحيل' لم تُكتب لشباب من أمثال 'حلمي'، لقد خاطب مؤلفُها -بدهاء- آباءً وأجيالاً تأبى إلا أن تحيا روحُها مرتين، مرةً بجسدها وصورتها هي، ومرةً أخرى بجسدِ وصورةِ أبنائها! إنها رسالة لكل الآباء والأمهات مفادُها أن أطلقوا سراح طيورِكم الصغيرة، دعوها تُحلِّق فوق رؤسكم، لا حاجة لكم بهذا القفص، إن سُنَّة الحياة أن يُسلِّم كلُّ جيلٍ الراية للجيل التالي وأن يعيش كلُّ جيل بفلسفته الخاصة، ولولا هذا لكنا جميعاً تكراراً لما كان، وصوراً مستنسخة لا فارق بينها يميزها و يَبثُّ الحياة فيها.